بقلم: مين يي
بحلول 2023 تحُل على الصين الذكرى العاشرة لإطلاق “مبادرة الحزام والطريق”، المبادرة الرائدة التي تنفق الصين بمقتضاها مليار دولار أمريكي لتمويل طرق ومطارات وغيرها من البنية الأساسية الحيوية حول العالم.
ومن الأهمية بمكانٍ التوقفُ قبيل هذه المناسبة والتأمل في أهمية التمويل الصيني واتجاهاته بالنسبة للاقتصاد للدولي.
عند تقييم فاعلية سياسة ما، فما من سبيل لفهم دوافعها إلا بفهم أصولها. ويعود بنا هذا إلى عام 2012، إذ يتكشف الكثير عن بداية المبادرة، وتتوضح الصورة الكاملة لمنجزاتها التي تحققت على مدار هذا العقد. في هذا العام، 2012، شهدت علاقات الصين الاستراتيجية والدبلوماسية والاقتصادية مع العالم توترات شديدة. فأما على المستوى الاستراتيجي، فكان أبرزها صراعاتها الإقليمية والعسكرية في بحري الصين الجنوبي والشرقي؛ وبهذا كانت مبادرة الحزام والطريق جزءًا من المقترح الاستراتيجي “اتجاه الصين غربًا” وتعزيز شبكة الربط عبر الأراضي الأوراسية للتخفيف من حدة الصراع المباشر في المناطق البحرية الآسيوية. وأما على المستوى الاقتصادي، فقد واجهت الصين أيضًا نفوذ الولايات المتحدة الاقتصادي المتنامي الذي تمثَّل حينذاك في مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادي (أُلغيت لاحقًا). وبخلاف الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الحالي، فقد تميزت الشراكة عبر المحيط الهادي بمعايير عالية وإتاحة الوصول إلى سوق مفتوح. وإلى جانب تلك الضغوط الخارجية، فقد أصبح الفائض الصناعي والتلوث البيئي معضلة داخلية كاد الاقتصاد المحلي أن ينهار تحت وطأتها.
الإنجاز الأكبر الذي حققته مبادرة الحزام والطريق هو توفير بيئة متماسكة ومتساهلة تجد فيها الشركات والهيئات الحكومية مخرجًا من المشكلات الاقتصادية، وقد بينت مشروعات المبادرة والرسائل المختلفة التي حملتها تنوع الحلول الصينية لمواجهة لتلك المشكلات، حتى وإن لم تكن كلها فعالة بما يكفي.
تشير البيانات إلى أن استراتيجية مبادرة الحزام والطريق ناجحة جدًا حتى الآن. ففي عام 2021، على سبيل المثال، وقعت الصين 140 مذكرة تفاهم مع دول مختلفة و32 مذكرة مع منظمات دولية، كان نصيب أفريقيا منهم 46، وآسيا 37، وأوروبا 27، وأمريكا الشمالية 11، ومنطقة المحيط الهادئ 11، وأمريكا اللاتينية 8. وفي حين بلغت استثمارات الصين الخارجية المباشرة 82 مليار دولار أمريكي عام 2012، فقد وصلت إلى 154 مليار دولار أمريكي عام 2020، أي الضعف تقريبًا، محتلة بذلك المرتبة الأولى عالميًا في الاستثمار الخارجي. وكذلك زادت الاستثمارات الصينية في بلدان مبادرة الحزام والطريق بصورة واضحة.
إضافة إلى ذلك، فقد طرحت الصين مبادئ توجيهية واضحة ومعززة بشأن التنفيذ المستقبلي لمشروعات مبادرة الحزام والطريق. ومن ذلك: دعت القيادة السياسية إلى الانتقال بالمبادرة من الرؤية إلى العمل، وإلى امتثال مشروعاتها المستقبلية للمبادئ “التنمية الخضراء والمستدامة”. ونص الإعلان أيضًا على ضرورة تنفيذ ثلاث مهمات لتمكين المبادرة من المضي قُدمًا
تشجيع النمو العالمي، وذلك من خلال: مشاركة تجربة الصين التنموية، إقامة علاقات مع الاقتصادات الوطنية، تعزيز الأسس الطويلة المدى للتنمية العالمية.
العولمة الجديدة، وذلك من خلال: تعديل ميزان العولمة البحرية والبرية، بناء اقتصاد عالمي جديد أكثر شمولية وإنصافًا، التحرر من الغَرْبَنَة (التخلص من مركزية الغرب).
الإقليمية الجديدة، وذلك من خلال: إنشاء ممرات وأحزمة اقتصادية جديدة، بدلًا من الاتحادات والمناطق الاقتصادية التقليدية.
أخيرًا، ومع اقتراب مبادرة الحزام والطريق من بلوغ عامها العاشر، فقد أصبح دمجها مع الأولويات المحلية أكثر منهجية. فمثلًا: ترتبط ممرات المبادرة البرية ارتباطًا وثيقًا بتنمية منطقة شينجيانغ وعولمة منطقة غرب الصين. في حين ترتبط ممرات المبادرة البحرية ارتباطًا وثيقًا باستراتيجية منطقة الخليج الكبرى والتوسع البحري شرقًا. إلى جانب هذا، تضخ المشروعات الحكومية مزيدًا من الاستثمارات في الاقتصاد الأخضر والبنية الأساسية الرقمية والصناعات الإنشائية والسكك الحديدية.
هل يشير هذا النجاح إلى احتمال سيطرة الصين على الاقتصاد العالمي خلال السنوات القادمة؟
باختصار، لا، لن تسيطر الصين على العالم. أما تفصيل ذلك، فلدينا رأس المال الأمريكي والمؤسسات المتعددة الأطراف والمستثمرون الأوروبيون، وتلك الجهات الفاعلة أكثر قوة وأرسخ مكانة وأوسع علاقات على المستوى العالمي من نظيرتها الصينية. ويبرهن على هذا أن القروض والاستثمارات الغربية ما زالت مفضلة على مثيلتها الصينية، سواء أكان ذلك لدى البلدان الأوروبية أم الأفريقية أم الآسيوية. ليس هذا وحسب، فالولايات المتحدة وحلفاؤها، مثل: الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، يمتلكون قوةً تكنولوجية واقتصادات متطورة وبنية أساسية مستدامة. وبذلك، فهم يقدمون سويًا ميزة تنافسية تتفوق على مبادرة الحزام والطريق الصينية، ودليلًا واضحًا على أن ما يشاع عن نفوذ الصين الاقتصادي مبالغٌ فيه.
كذلك فإن النظام الاقتصادي والنظام الديمقراطي اللذين تقودهما الولايات المتحدة يضربان بجذورهما العميقة حول العالم، على العكس من النظام الصيني الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي يصعُب استيعابه أو التحول إليه في مكان آخر، ما يجعل من مساعي الصين المزعومة لتقويض هذه الأيدولوجية العالمية عملًا عبثيًا واضحًا للعِيان.
تخطو مبادرة الحزام والطريق بقوة في مسار انتشار الرأسمالية الصينية عالميًا، وينبغي الإشادة هنا بالفاعلية الكبيرة التي يجري بها التنسيق بين البيروقراطية الحكومية وشركات الأعمال. من ناحية أخرى، فالمشروعات الحكومية الصينية قادرة على تطوير البنية الأساسية، والمشروعات المعيشية، وتدريب القوى العاملة، وتوفير التوريدات الطبية والصحية، وبناء المجتمعات. لكن هذه القوة لا تخلو من ضعف إذا نظرنا إليها من منظور آخر؛ فدمج الجهات الفاعلة والتداخل بين المشروعات يجعل مسائل مثل الشفافية والمحاسبة شديدة الصعوبة.
هل نجاح مبادرة الحزم والطريق مكسب للصين وحدها أم للعالم كله؟ من الفائزون ومن الخاسرون آنذاك؟
على الرغم من الرقابة المفروضة على النقد في الصين، يبدو أن مبادرة الحزام والطريق ليست محل إجماع. فثمة قطاعات في المجتمع ينتابها القلق من أن تكون المبادرة سببًا في تصاعد المنافسة الصينية الأمريكية، أو سببًا في إهدار الاستثمارات المخصصة لها. من جهة أخرى فقد أفادت المبادرةُ المجموعاتِ السياسية الأساسية في الصين، مثل: الحكومات المحلية التي تستثمر في العولمة والنمو، الشركات التي تتوسع عالميًا باستخدام التمويل الحكومي، الهيئات الحكومية المستفيدة من منصات المبادرة، المجتمعات البحثية المعنية باستكشاف العالم وفهمه.
أما خارج الصين، فقد استفادت البلدان الواقعة ضمن نطاق مبادرة الحزام والطريق بمقادير مختلفة؛ فقد استضافت استثمارات وحصلت على قروض وأقيمت فيها مشروعات بنية أساسية بقيم كبيرة إلى حد ما. حتى عند فشل بعض المشروعات أو تعليقها، فقد تعلمت تلك البلدان دروسًا مهمة واكتسبت خبرات قيمة في مجال تطوير البنية الأساسية ومشاركة رأس المال الصيني. وفي نهاية المطاف فليست مبادرة الحزام والطريق معجزة تحقق المستحيل؛ فهي ليست قادرة على إفادة غير المستعد للاستفادة، وليست قادرة على التغلب تمامًا على التحديات التي تواجه الصين محليًا وعالميًا. لكنها كانت جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد السياسي العالمي على مدار السنوات العشر الماضية وعلى الأرجح ستظل كذلك مستقبلًا.
مين يي، مدير الدراسات الجامعية وأستاذ العلاقات الدولية المشارك بكلية فريدريك إس باردي للدراسات العالمية في جامعة بوسطن.