اتبع CAP على وسائل التواصل الاجتماعي

استمع إلى البودكاست الخاص بـ CAP

كيف يمكن للتعاون الصيني الأمريكي تعزيز الديمقراطية؟

بقلم: جيك وارنر

هل يمكن إيجاد أرضية مشتركة بين الصين والولايات المتحدة بشأن قضية الديمقراطية المسببة للتوتر؟ تبدو الإجابة لأول وهلة “لا”. لكن احتمالات تطبيق الديمقراطية حول العالم قد تعتمد على صياغة مفهوم أكثر شمولًا لها وأكثر تماسكًا من التعريفات السائدة حاليًا، وهو ما قد يتيح الفرصة أيضًا أمام تعاون القوى الكبرى.

ترسم إدارة بايدن سياستها الخارجية كمعركة مصيرية بين الديمقراطية والسلطوية، وتجعل من الولايات المتحدة قائدة الدول الديمقراطية مقابل جعل الصين زعيمًا للدول الأوتوقراطية. ويؤدي طرح القضية هكذا إلى أن أي نجاح تحققه الحكومة الصينية يعزز من مكانة الأوتوقراطية ويحط في المقابل من مكانة الديمقراطية.

يترتب على ذلك ضرورة تقييد النمو والنفوذ الصيني دفاعًا عن الديمقراطية. وقد انعكس هذا في وصف أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، للصين مؤخرًا بأنها البلد الوحيد الذي يمتلك القدرة والرغبة في تفكيك النظام الليبرالي الدولي. وفي المقابل، فمن المفترض أن يفند بقاء الهيمنة الأمريكية اقتصاديًا وعسكريًا المزاعم الصينية بأن الأتوقراطية أكثر كفاءة من الديمقراطية، وأن يحافظ على الأرباح والوظائف الأمريكية لتهدئة الاستياء الشعبي من الأوضاع الاقتصادية هناك.

ومع ذلك، وكما هو واضح للعيان في السياسات المحلية والخارجية الأمريكية، فإن صراع القوى الكبرى يؤدي إلى تغذية النزعات العسكرية والقومية والعنصرية أكثر مما يؤدي إلى تعزيز الديمقراطية. لهذا فقد يؤدي السجال الأمريكي الصيني إلى تكرار مآسي الحرب الباردة، حينما تنافس الجانبان في إلقاء الخطب الرنانة دفاعًا عن الديمقراطية، وانتهكوا قواعدها محليًا وخارجيًا على أرض الواقع. ثم إن إغداق الموارد العامة على القطاعات التكنولوجية والعسكرية المزدهرة بالفعل، وإهمال الخدمات العامة واقتصاد الرعاية لن يضيف الكثير من الفرص إلى الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني فعليًا وبدرجة عالية من التفاوت وعدم المساواة. إضافة إلى ذلك، إذا كانت الولايات المتحدة تحتكر معظم الأرباح والوظائف التي توفرها الصناعات المستقبلية، فكيف لغيرها من الدول الديمقراطية المعرضة للخطر أن تسد احتياجات شعوبها؟

على هذا الحال، تزداد احتمالات أن يدمر الصراع الأمريكي الصيني الديمقراطية من أجل إنقاذها! ولكن ربما تعتمد جاذبية الديمقراطية على القوة الأمريكية الجيوسياسية بدرجة أقل من اعتمادها على السؤال المستهلَك: هل تأتي الانتخابات حقًا بمواطنين عاديين؟ وثمة تصور آخر للديمقراطية أكثر شمولًا وعمقًا، ألا وهو الديمقراطية الموضوعية، وهو يشير إلى نهج مختلف لإنعاشها.

غالبًا ما تُعرَّف الديمقراطية في الولايات المتحدة بعبارات شكلية، مثل: انتخابات حرة وعادلة، حرية التعبير والتجمع، سيادة القانون. في المقابل، فالديمقراطية الموضوعية ليست مجموعة من الإجراءات والقيود على الدولة وحسب، لكنها تشمل الظروف الاجتماعية الأوسع نطاقًا التي تؤهل المواطنين للمشاركة في الحكم الذاتي. وعلى أي حال، فهؤلاء الواقعون بين مطرقة البطالة وسندان الديون، والذين أنهكم المرض ويعجزون عن تلقي العلاج أو الهروب من أحيائهم الملوثة، والمجبرون على النوم في الشوارع ولا يجدون قوتًا إلا بين أكوام القمامة – كل هؤلاء مهمشون سياسيًا، لا يختلفون في شيء عن نظرائهم الذي يحيون في ظل نظام سلطوي رسمي.

يمكن التأثير على نزاهة الانتخابات بسهولة باستخدام نفوذ المال، ويمكن اختراق نظم الحكم بسهولة من خلال شبكات المحسوبية والمصالح الخاصة ذات السطوة. والأشخاص الذين أنهكهم الإهمال والظروف الاجتماعية لا يستطيعون محاسبة مسؤوليهم المنتخَبين، ولن يستطيعوا ذلك دون الارتكاز على أُسس متينة، حينئذ فقط يمكنهم المطالبة بالديمقراطية وتطبيقها عمليًا.

يساعدنا هذا التصور الأكثر شمولًا أيضًا على فهم قوة السلطوية في السنوات الأخيرة. فقد أدت مفاهيم العولمة والسوق الحر التي بدأت في ثمانيات القرن العشرين إلى تآكل سلطة الدولة، في حين غذت الانفتاح الاجتماعي والتسامح العالمي، ما شجع على انتشار الديمقراطية الشكلية عالميًا. وكان من تبعات العولمة: تحطيم قوة العمل، وتدني الخدمات الأساسية، والتخلص من القيود المنظمة للسوق الحر. وقد تسبب هذه التبعات من فورها في انتشار عدم المساواة الناتج عن حكم الأقلية (الأوليغارشية) في شتى نواحي العالم. وقد كان تقلص القوى العاملة المنظمة أحد الأضرار البالغة التي حلت بالدول المتقدمة والنامية على حد سواء؛ وذلك نظرًا للدور المحوري الذي شاركت به الاتحادات والأحزاب العمالية تاريخيًا في الحفاظ على الديمقراطية.

ركزت هذه التغيرات معظم المكاسب والفرص الاجتماعية في يد مجموعة محدودة على قمة الهرم الاجتماعي بدلًا من توزيعها على نطاق واسع، ما أفسد عملية انتخاب القادة. وأحدث هذا التوزيع غير العادل ندرة مصطنعة، وعمَّق الانقسامات القائمة على الهوية؛ إذ سعى الناس إلى إقامة تحالفات تعينهم على الفوز في صراعاتهم، وبحثوا عن كباش فداءٍ لإخفاقاتهم، ما وفر بيئة خصبة للغوغائيين على اختلاف توجهاتهم: عنصريين، طائفيين، قوميين. وبذلك تقدمت الديمقراطية الشكلية على حساب الديمقراطية الموضوعية، تاركًة خلفها أسسًا بالية لكلتيهما.

ديمقراطية تحت الإكراه

خلال السنوات الأخيرة انطلقت العديد من الاحتجاجات المطالبة بنمو عادل وخدمات أساسية جيدة ووضع حد لإفلات النخبة من العقاب، هزت هذه الاحتجاجات العالم من البرازيل في أقصى الغرب إلى إندونيسيا في أقصى الشرق مرورًا بكينيا في قلب أفريقيا والعراق في الشرق الأوسط. ومع ذلك، يكاد ما غيرته هذه الاحتجاجات ألا يُلاحَظ، وبدأ السخط يتحول إلى صراعات صفرية المحصلة بين الطوائف المختلفة.

ما الذي يحول دون تحقيق المطالبات الشعبية بإتاحة منافسة ديمقراطية؟ المشكلة الأولى هي الضعف الاقتصادي العالمي المستمر منذ الأزمة الاقتصادية في عام 2008، لا سيما وقد تفاقم بفعل جائحة كورونا، والعجز عن سداد الديون، والتضخم العالمي. ويقوض النمو البطئ الظروف الاقتصادية للديمقراطية الموضوعية؛ إذ يحد من القدرة على خلق وظائف وعوائد حكومية، ولا يتيح للنخب إلا فرصًا قليلة للتوافق، وعندما تتعالى الأصوات الشعبية المطالبة بالتغيير لا تجد النخبة أمامها إلا التمسك بالتفاوتات القائمة؛ إذ لا يتيح النمو البطئ إلا مجموعة من الاحتمالات محصلتها صفر.

يتضح من ذلك أن نجاح جهود الصين التنموية العالمية الطموحة لا يشكل أي تهديد للديمقراطية، بل يساههم بدور محوري في تجديدها من خلال خلق وظائف جديدة، وإتاحة المزيد من الفرص، وفتح المجال أمام النخب وإمدادهم بالزخم اللازم لعملية الإصلاح. ومثالًا على ذلك، فقد ركزت مبادرة الحزام والطريق، وكذلك القروض الواسعة النطاق التي قدمها مصرفا السياسة المالية الرئيسيان في الصين – ركزا على إنشاء بنية أساسية ومحطات كهربائية في الجنوب العالمي لسد الفجوة التي تجاهلتها القروض الإنمائية الغربية على مدار عقود.

مع ذلك، وحسبما تبين في حالة الصين نفسها، فالدينامية الاقتصادية ضرورية لكنها ليست كافية لخلق ديمقراطية حقيقية. فقد استفادت الصين من العولمة  في تحقيق معدلات ناتج محلي إجمالي ونمو إنتاجي غير مسبوقة والحفاظ عليها. لكن مثلما حدث في بقية العالم، أدى اقتصادها القائم على السوق إلى زيادة عدم المساواة، والفساد، واستغلال القوى العاملة، وفقدان الأمان الشعبي، والتدهور البيئي. وقادت هذه التبعات إلى مزيج هادر من الاستياء والخوف، وغذى هذا المزيج بدوره التحول إلى القومية المتطرفة على مدار العقد الماضي.

يتطلب النمو الديمقراطي أكثر من مجرد النمو الاقتصادي

الدرس المستفاد: ليكون الاستثمار داعمًا للديمقراطية يجب ألا يقتصر هدفه على زيادة النمو  الاقتصادي وحسب، ولكن لا بد له أن يتيح الفرص أمام الذين يعانون من الإقصاء والاستغلال، وأن يقلل من جوانب التفاوت وعدم المساواة، وأن يزيد من القدرة التنظيمية، وأن يرفع مستوى ثقة الشعب بنفسه سياسيًا. ولضمان تحقيق هذه النتائج ينبغي لجدول أعمال السياسات  أن يركز على توفير خدمات عامة جيدة، والحفاظ على حقوق العمالة كاملةً، وتوزيع الاستثمار بين المناطق على نطاق واسع، وحماية الفئات التي تشكل قاعدة الهرم الاجتماعي من تحمل تبعات النمو، مثل: التدهور البيئي.

ضمت واشنطن الديمقراطية حاليًا إلى أجندة أعمالها لاحتواء الصين، وبهذا فهي تعمق القومية الصينية وتثير مزيدًا من الشكوك بشأن القيم الليبرالية. فإذا قبلت مقترح الحكومة الصينية الذي يقضي بمشاركة كل منهما في البرامج التنموية للدولة الأخرى، فسيكون هذا أفضل لصالح قضية الديمقراطية العالمية. وسيتعين على واشنطن حينئذٍ أن تتبع نهجًا تنمويًا شاملًا وتمكينيًا، وهو ما سيحسن نتائج البرامج الصينية من جهة، ويستفيد من إمكانتها في إنعاش الديمقراطية من جهة أخرى. لن تؤدي المواجهة إلا إلى تخريب متبادل سيترك أرضًا قاحلة وفرصًا منعدمة أمام الديمقراطية. أما التعاون فسيكون سبيلًا لتدشين عصر جديد من الحرية والانفتاح وإرساء أسس متينة مستدامة.

جاك وارنر باحث متخصص في التاريخ الصيني الحديث وزميل سابق في أحد أبحاث ما بعد الدكتوراة بعنوان” الصين العالمية” وأجراه مركز السياسات الإنمائية العالمية بجامعة بوسطن.