كشف أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، النقاب عن استراتيجية واشنطن الجديدة بشأن أفريقيا، وذلك في خطابه الذي ألقاه في حرم "أفريقيا المستقبل" بجامعة بريتوريا، في 8 أغسطس 2022.
وكانت عناوين رئيسية سابقة قد أشارت إلى استراتيجية الولايات المتحدة الجديدة بشأن جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، وذلك فيما يخص الصين وروسيا، ولعل السبب وراء ذلك أنه من الصعب أن يقرأ الناس في واشنطن ولندن أي شيء بشأن أفريقيا ما لم يستحضر شبح حرب باردة جديدة.
في الواقع، فإن الاستراتيجية الجديدة تظهر تراجعًا طفيفًا في الاهتمام بالصين مقارنة بنظيرتها في عهد ترامب، التي تمحورت حول مواجهة النفوذ الصيني. وتحمل الاستراتيجية عمومًا بعض التفاؤل الحذر بين مقرري السياسات الأفريقية؛ إذ إنها تبدي رغبة جديدة من الولايات المتحدة في التعاون في قضايا تنموية، مثل: التخفيف من آثار تغير المناخ، وفي الوقت نفسه تخفف نسبيًا من الضغط الجيوسياسي على تعاون القارة التنموي مع الصين.
أشارت الاستراتيجية إلى عدة مجالات للتعاون، بدءًا من التعاون المنفرد مع بعض المدن الأفريقية، مرورًا بتعزيز الروابط مع جماعات المهاجرين الأفارقة بالولايات المتحدة، وصولًا إلى مكافحة جائحة كورونا. مع ذلك، فما يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستتمخض عن هيئات مشاركة جديدة أم لا.
تقوم العلاقات الصينية الأفريقية على ركيزتين أساسيتين، أولًا: مجموعة هائلة من المشاركات الدبلوماسية، وثانيًا: هيكل رسمي متعدد الهيئات يأتي في مقدمتها منتدى التعاون الصيني الأفريقي. أما الولايات المتحدة فكانت أقل اهتمامًا بكلتا هاتين الوسيلتين. وفي حين تشير الاستراتيجية إلى قمة تجمع قادة الولايات المتحدة ونظرائهم الأفارقة، مقرر عقدها في ديسمير، فإنها ما تزال غير واضحة بشأن ما إذا كانت مثل هذه الفاعليات ستنعقد بوتيرة كافية لدعم التعاون الفعلي المستمر، وما إذا ما كان من المقرر إطلاق هيئات تعاونية جديدة أم لا.
ولا شك أن فعاليات التواصل تلك ستؤثر بشكل حقيقي على جودة التنسيق بشأن أهداف الاستراتيجية: الانفتاح والديمقراطية وأنظمة الحكم. وتنص الاستراتيجية على: "ستسعى الولايات المتحدة إلى الحد من الموجة الحالية من الاستبداد والانقلابات العسكرية، وذلك من خلال العمل مع حلفاء وشركاء في المنطقة للتعامل مع التراجع الديمقراطي وانتهاكات حقوق الإنسان، ويتضمن هذا مزيجًا من الحوافز الإيجابية وفرض العقوبات". مع ذلك، لا يزال من غير الواضح مدى مقدرة هؤلاء الحلفاء والشركاء الأفارقة على تخفيف أثر تلك العقوبات حال فرضها.
وبدلًا من وجود هيكل قوي منفتح يجمع الطرفين لاتخاذ قرارات مشتركة، يبدو أن تقرير ما يُعتبر "ارتدادًا ديمقراطيًا" يستحق فرض عقوبات سيظل مقصورًا على واشنطن.
وتظهر محاولات دول إيكواس (الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا) القريبة لفرض عقوبات على النظام العسكري في مالي -وهو القرار الذي عارضته الصين وروسيا في الأمم المتحدة- تظهر أن البلدان الأفريقية لا تعترض على مفهوم العقوبات بحد ذاته، ولكن حالة مثل زيمبابوي تثبت أن العقوبات قد تقوي الأنظمة غير الديمقراطية بدلًا من إضعافها. فقد تأخرت استجابة القوى الغربية للنداءات الأفريقية برفع العقوبات عن زيمبابوي، وعلى عكس المتوقع فقد عزز ضغط العقوبات المستمر من الحضور الصيني والروسي هناك.
يمثل التعاون الواقعي مع الأنظمة السيئة على اختلاف مستوياتها -مع الأسف- إحدى الحقائق المرتبطة باتخاذ القرار الأفريقي المشترك. لذا؛ فالاستراتيجية تثير عددًا من التساؤلات بشأن كيفية تنفيذها. ويظهر انتقاد ناليدي باندور، وزيرة الخارجية لدولة جنوب أفريقيا، لقانون التصدي للأنشطة الروسية الضارة في أفريقية، المطروح مؤخرًا للمناقشة في الولايات المتحدة، يظهر حذرًا مما قد تؤدي إليه الخيارات الأفريقية من تحويل دول القارة إلى أهداف في معركة جيوسياسية أوسع نطاقًا. وقد فاقم من هذا القلق عدم وجود هيئات أمريكية أفريقية قوية لاتخاذ القرارات المشتركة.
ثانيًا، التعاون الأمني والعسكري محوري في هذه الاستراتيجية، مع تشديدها على دور المؤسسات الأفريقية في هذا الشأن. ومع ذلك، فإنها تنص على: "سندمج الدول الأفريقية الواقعة على المحيط الهندي في منتديات منطقة المحيطين الهندي والهادي؛ وسنعزز تعاوننا مع الدول الواقعة على ساحل المحيط الأطلسي في أفريقيا وأوربا ونصف الكرة الأرضية الغربي؛ وسنعالج الانقسام البيروقراطي المصطنع بين شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى".
ما زال من غير الواضح ما إذا كان ذلك يتضمن دخول الدول الأفريقية إلى بؤرة الاهتمام العسكري لاحتواء الصين، وهو التوجه الذي سيطر على مفهوم منطقة المحيطين الهندي والهادي في البنتاجون. وبديهي أنه إذا توسعت رؤية الولايات المتحدة الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادي (التي تتباين مع رؤية اليابان التنموية) لتشمل الساحل الأفريقي على المحيط الهندي، فستزيد الضغط بصورة ملحوظة على هذه الدول، ليس فقط من الولايات المتحدة، لكن أيضًا من حلفائها، مثل: الهند، وما يزال من غير الواضح كيف ستتجاوب الدول التي تحظى باهتمام صيني كبير مع هذه الرؤية الأمريكية.
ويثير ذلك الدمج أيضًا سؤالًا عمّا إذا كان جزءًا من الهدف الأكبر "إنشاء علاقات بين منطقة المحيطين الهندي والهادي والمنطقة الأوربية الأطلسية" حسبما ورد في استراتيجية الولايات المتحدة بشأن منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وقد كان الضغط الأمريكي الأخير بسبب قاعدة صينية مزعومة في غينيا الإستوائية نذيرًا لما قد يؤول إليه الأمر مع الحكومات الأفريقية المنفردة.
أيًا ما كانت فكرة القوى الغربية عن النشاط الصيني في أفريقيا، فهذا الضغط بالضبط ما ترغب الحكومات الأفريقية في تجنبه. وما زال من غير المعلوم ما إذا كان التراجع الطفيف في الاهتمام بالصين في نص الاستراتيجية سينعكس على أرض الواقع أم سيظل حبرًا على ورق...